أخر الاخبار

ذكريات معلم - الجزء العاشر -


ذكريات معلم -الجزء العاشر -


ذكريات معلم
انتهت العطلة, و لا مفر من العودة فأنا أتحمل مسؤولية أطفال أبرياء و لاشك أنهم يترقبون قدومي كما كنت أترقب أيضا قدوم معلمي بفارغ الصبر, تذكرت كم كنت شغوفا بالدراسة في طفولتي, و كم كانت العطلة كابوسا أتمنى ألا يطول, و أستعجل نهايتها كمن يستعجل مرور اشهار سخيف ليستمتع بمسلسله المفضل, هكذا كنت أرى العطلة و أنا تلميذ, مجرد فاصل اعلاني سخيف, لا أعيره تركيزي، اذا قاطع فرجتي، أتجول بناظري متأملا ديكور الغرفة أو أتفحص جهاز التحكم و كأني أراه لأول مرة, فقط لكي أغتال الثواني القليلة من عمر الاشهار.. الآن و أنا معلم في سنتي الأولى بدلت الأدوار, و انقلبت الأحوال, صارت العطلة على قصرها قطعة من السعادة ألتهمها بنهم, و أيام الدراسة قطعة عذاب هي من تلتهمني ..
طريق العودة كانت مفروشة بالكآبة, كلما تعمقت فيها تنكمش روحي و تصيبني نوبة ضجر هستيري، و كأنها طريق نحو موت محقق، مثل ذلك الجندي في طريقه الى ساحة الوغى, الفرق هو أن الجندي يعرف عدوه و قادر على التصويب نحوه إن لمحه من وراء ركام من الأكياس الرملية, و أنا عدوي؛ الوحدة, خفية لا تدركها الأبصار, عبثا أحاربها و مهما حاولت التصويب فهي ترديني طريح الغبن, و كأن أسلحتي أصوبها نحوي كما يفعل طفل بريء بمسدسه المائي ..
وصلت المركز يوم الأحد و لحسن الحظ صادفت يوم السوق الأسبوعي و هو اليوم الوحيد الذي يتوفر فيه النقل للدوار, تهت بين جموع الناس القادمين من دواوير مختلفة باحثين عن حاجيات لن تتوفر بحر الأسبوع, كنت أستطيع تمييز التائهين من المعلمين مثلي؛ للمعلم في السوق الأسبوعي علامات أستطيع تمييزها بين جمهور المحليين, شكلهم و لباسهم و البريق في أعينهم علامات لا أخطئها أبدا, أما تأبطه محفظة فهي الكاشفة التي تجعله مشهورا بين الكبير و الصغير ..
كان التجاذب آليا بيننا نحن المعلمين, كقطع المغناطيس تتجاذب بمجرد التقارب, نكسر كل حواجز الخجل و الصمت بسهولة, سرعان ما يعرف بعضنا الآخر، و ندشن صداقة من اللقاء الأول قد تعيش الى الأبد اذا لم توءد بانتقال أو وفاة ..
كان يوم السوق الأسبوعي مرتعا خصبا ترعرعت فيها صداقات كثيرة, عرفت أصدقائي بأسمائهم و قد صارت أسماء الوحدات التي يشتغلون بها لقبا لصيقا بأسمائنا, فكنت أنا مثلا يوسف داوعبيد, وقد كنت الأسوأ حظا بينهم لكن صداقتهم كانت كالضمادة على الجراح ..
في المساء, بدت من أحببتها قبل العطلة مختلفة تماما, عجوزا بلباس هيمنت فيه الرقع على اللون الأساسي, وحذاء متآكل أسود أعيته مسافات المشي في الطرق الوعرة, تكدس بداخلها الناس و مشترياتهم, وجدت جثتي أيضا مكانا بداخلها, كانت روحي تقاوم كالحصان الذي يرغمه سيده على القفز به ليتخطى خندقا عظيما و هو يأبى فيرفع قائمتيه الأماميتين الى السماء و يزمجر رافضا الخنوع لأمر صاحبه, و أمام اصرار هذا الأخير يستسلم الحصان و يلقي بنفسه و بصاحبه إلى التهلكة .. أ تراني أفعل بنفسي الشيء نفسه ؟؟
وصلنا قمة الجبل في جنح الظلام, ألقتنا " الطرنزيت" خارجا فابتلعنا السواد و هرعنا نكمل المسير على الأقدام ..
في جو بارد جدا تكرم أبناء ّعمي زايد" و حملوا أغراضي الثقيلة على ظهر الدابة الا حقيبة الظهر تركتها لتحمي ظهري من طعنة برد غادرة.
أرخى التعب بظلاله على جسدي النحيل, كنت أمشي كمن به سكر من الارهاق, أفقد التوازن فأتعثر و تدفع قدماي الثمن بلسعات حجارة مسمومة .. راح مرافقيي الى حال سبيلهم, وصلت بشق الأنفس الى المدرسة, رغم الحزن كنت سعيدا لحظة الوصول، فطاقتي صفر في المئة بعد ليلة سفر و نهار شاق في السوق الأسبوعي, استعجلت اخراج مفاتيحي من حقيبة الظهر, فكانت المفاجأة !!!!! المفاتيح غير موجودة ; استجمعت قواي و أعدت البحث بين طياتها, فلم أجدها .. فتشت جيوبي و نقبت في كل أغراضي دون جدوى !! انقشع ضوء في ذاكرتي و تذكرت أن المفتاح في حقيبتي الكبيرة التي غادرتني و غدرتني .. كانت الحقيبة الكبيرة على ظهر الدابة, تشبثت بأمل كاذب و انتظرت في العراء قدومهم و حقيبتي, لكن الخيبة تستقبلني من جديد على أعتاب مدرستي ..
في لحظة ضعف و انكسار أحسست قسوة القدر و انهمرت الدموع من عيني شلالا, بكيت مطولا و دعم البكاء النحيب, فأنا في وضع لا أحسد عليه, ما السبيل لاحضار مفاتيحي و الظلام دامس حتى أنك لا تستطيع رؤية شخص يقف بقربك, و منزل "عمي زايد" بعيد عن المدرسة و الطريق غير مرسومة المعالم, و الكلاب متربصة تستقوي في جنح الظلام فتصيرا أسودا ..
أدركت أنه لا مفر من الذهاب لمنزل ّعمي زايد", أطلقت العنان لخطواتي, و انطلقت كالأعمى أبحث عن ابرة في كومة قش, تحديت مخاوفي و لا أدري كيف اهتديت لهدفي, كان تحديا صعبا للغاية, و كأني عشت حلما بدون ألوان, وحده اللون الأسود استعمر أوطان حلمي ..
عدت الى مسكني أحمل مفاتيح النصر, ألقيت جسدي المتعب المنكوب على زربية أمي, غرست أنفي بين خيوطها لعلي أشتم بعضا من رائحتها الزكية, غصت في بحر نوم عميق و استسلمت للتعب ..
علمتني الفرعية في درسها الأول بعد العطلة: لا تفرط أبدا في مفاتيحك, دعها دائما حبيسة جيبك, و تسلح دائما بمصباح جيبي, انتبه لاسمه !! و لا تدعه أيضا يمرح خارج جيبك.
يتبع
لقراءة الجزء الحادي عشر اضغط على الرابط: ذكريات معلم - الجزء الحادي عشر -
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-