ذكريات معلم - الجزء التاسع -
مع اقتراب العطلة, تتثاقل الأيام في المرور, على دفتري الذي أدون فيه كل شيء من تحضير للدروس, و الغياب و ماجادت به قريحتي من شعر و نثر و زجل, دونت أيضا يومية بها الأيام التي تبقت لأول عطلة مدرسية, كل يوم أستيقظ فيه من النوم أ قفز على الدفتر بلهفة و أشطب على اليوم الذي ودعت, أغوص في الدفتر, أحملق الأيام المتبقية, أحسبها و أعيد الحساب مرات و مرات, و كي أتأكد أني لم أخطئ تؤازرني أصابعي و قد ألجأ لقتل الشك باليقين لوضع عمودي للعمليات الأربع, فأطرح أيام الشهر من أيامه التي مرت, و أستعين بالجمع و الضرب و القسمة, و أخترع مسائل رياضية يكون السؤال الأوحد دائما فيها: كم يوما بقي العطلة ؟ أو بصيغة أخرى، كم بقي و يغادر المعلم الدوار؟
كان الشوق لمعانقة العطلة يعادل شوق الرضيع لمداعبة ثدي أمه التي قررت فطامه, الطفل يصرخ بأعلى صوته, يبكي حتى تخور قواه ثم يستجمعها من جديد فيكون بكاؤه أقوى من الأول.. كذلك كنت أنا, أبكي و أصرخ من الداخل, قواي لا تخور, لكن روحي تذبل و تموت ببطئ شديد, هيئة الشاب العشريني ناصعة للناظرين, لكن روحي شاخت و أعيتها الوحدة و الألم ..
في اليوم الذي شطبت فيه على آخر يوم في اليومية, كأني أزحت ثقلا عظيما من على صدري, علامة "في" الأخيرة دبت فيها الحياة و همست في أذني : أبشر يا يوســـف, غذا ستغادر.. حملت الدفتر و قبلتها فاحمرت رغم أني خططتها بالقلم الأزرق الجاف, زفة من الجنون بالفرح سرت في أوصالي, لم أشعر بنفسي حتى رأيتها تراقص روحي, تجوب أرجاء القسم-السكن بخفة و رشاقة, تقفز دون كلل أو تعب، تلامس كل أشيائه و كأنها تودعها, لم تعق الطاولات حركتها, فقد كانت كالفراشة ترفرف من فوق ..
هستيريا الفرحة لم تفارقني, كنت كالمجنون أحدث نفسي, الأفكار الكثيرة التي كانت تغزو عقلي و تنتج فوضى دواخلي, أخرجتها منظمة للواقع, و قد صرت أتقمص أدوارا عديدة, في كل دور أغير نبرة صوتي حتى أن عضلات النطق خاصتي توعكت و لم تعد تقوى على الحركة ..
لم أنم ليلتها, استيقظت صباحا, حملت حقيبة ملابسي و انقلعت ..
لم أنم ليلتها, استيقظت صباحا, حملت حقيبة ملابسي و انقلعت ..
كان يوم جمعة, اليوم المعتاد الذي تحبو فيه ّ الطرنزيت" للدوار, عندما رأيتها ذلك اليوم, كانت مختلفة جدا, وقعت في حبها.. عجلاتها سيقان نظيفة بلون اللبن, تنتعل حداء ذا كعب عال أسود, جسمها المطلي بالأبيض الناصع بدا كفستان عروس متأنقة, فارهة الجمال, نوافذها الزجاجية هي نظارتاها اللتان لا تشبهان بأي حال من الأحوال نظارتا مدير المدرسة .. غمزتني بضوئها من أعلى قمة الجبل, و أحسست لأول مرة أني أنا الأكبر حجما و ليس الجبل, صعدته بأريحية, ألقيت نظرة أخيرة على المدرسة, استمتعت بمشهد الوداع و انزويت لأعانق حبيبتي ..
لم تتعبني الطريق الملتوية, الحبلى بالأحجار و المطبات, أحسست أني أمتطي قطارا من لعب طفل صغير, يضعنا على السكة التي أفرشها الأرض و تفنن في جعلها ملتوية ليقنع نفسه و هو يسوق القطار عليها أنه سائق بارع, يدفعنا ببطء على السكة, يوقفنا تارة لأن ذبابة حطت على أهداب عينيه العسليتين, يطاردها دون أن تفلتنا قبضته حتى نكاد نسقط, يعود ليستأنف بنا الطريق و تعود الذبابة اللعينة لتحيك نفس المشهد ..
في المركز, يعود هاتفي الخلوي للحياة, بحثت له عن مقهى أملأ فيه بطنه و بطني, لم أجد أفضل من مقهى " محماد" صاحب المقهى الودود, سلمته هاتفي ليشحنه و سلمني " براد أتاي" و صحنا من زيت بلدية, جردت " فرماجة " من ملابسها و دفعتها لتعوم في الصحن, تبلل جسمها بالزيت, فطاردتها بـ " فم " خبز و نلت من جزء منها, واصلت مهاجمتها الى أن محي أثرها و جففت الصحن من الزيت و منها..
حجزت مكانا لي في التاكسي, و جلست أنتظر في المقهى اكتمال المقاعد, قد يطول الأمر, لكني لم ابه لذلك, لم ابه بالوقت بتاتا, كانت روحي مفعمة بالحياة, لا شيء سيجعلها تذبل أو تشعر بالملل حتى, بعد أن فكت أغلالها من هناك.
اكتمل عدد المقاعد لكن سائق سيارة الأجرة انتظر المزيد ليملأ به الفراغ الضيق في سيارته الطويلة من نوع "بوجو " و عوض الستة أشخاص المسموح بها, تتكدس عشرة أجساد داخل علبة الخردة القديمة و تسير الهوينى على طرقات زاكورة.
عانقت روحي الحياة من جديد و جرت دماء الفرح في عروقي, كنت كالعائد من الموت, نهلت من دفء العائلة, و حرارة صحبة أصدقائي, ارتويت من حضن أمي الحبيبة, و استمتعت بكل لحظة كما لم أستمتع من قبل.
كمن أغمض جفنه و فتحه, انتهت العطلة ...
يتبع
لقراءة الجزء العاشر اضغط على الرابط : ذكريات معلم - الجزء العاشر -