أخر الاخبار

ذكريات معلم - الجزء الثامن -


ذكريات معلم -الجزء الثامن -


ذكريات معلم

كثيرة هي حالات بعض الزملاء الذين بعد أن اصطدموا بظروف صعبة في تعييناتهم، عادوا أدراجهم و تركوا الجمل بما حمل، عادوا ليؤثثوا مشهد حياتهم من جديد بعيدا عن مهنة المتاعب. أنا اخترت مواصلة الطريق رغم وعورتها، رغم أنها فاقت قدراتي و تفوقت على طاقاتي، عزمت أن أسير الى الأمام، و ألا أجلب العار لنفسي أمام عائلتي و جيراني و معارفي, نفسي عزيزة تأبى الانبطاح للظروف، ماذا سيقال عني ان عدت مهزوما: -لم يصبر، لم ينجح، لم يقاوم، " عيان" ..
سيتلذذون بسرد تجارب معارفهم الذين واصلوا في المهنة، سيجعلون مني أضحوكة تجمعاتهم، و النموذج الذي لا يحتدى به، و سيشربون الشاي و يتناوبون في الحديث عن انتكاسي و يتناولونني بطعم الغبطة و الحبور، كما تُتناول حبات الفول السوداني و جرعات الشاي..
و أنا على هذا الحال من العزم على المضي قدما، رغم الوحدة و العزلة و الغربة التي أعيشها "بلا حريك" جاءت صدمة هزت عرش عزيمتي، و حولت آمالي أشلاء من وهم مر المذاق..
بعد مرور حوالي شهر على تربعي على عرش فرعيتي, لازلت الحاكم التائه, الذي يحاول لملمة شتات رعيته – المستويات- و ينطلق في الإغداق عليهم بالمكرمات –التعلمات- فيوصلهم بر الأمان و النجاح..
و أنا أحاول, استيقظت باكرا كعادتي, أداعب فطوري المتواضع, أرتشف شايا و و أغوص متأملا كأسي الزجاجية, أديرها من كل جانب و كأني باحث في الجيولوحيا يفتحص بعناية فائقة معدنه الناذر, أركز في تضاريس الكأس و خدشاته الطفيفة فتجرني جرا الى عالم اخر, أبحر في تموجاته و أجابه دواماته في ما لا نهاية من الفراغ و الضياع..
و في لحظة وعي مني, لمحت عند قمة الجبل علبة بيضاء كقبعة بلون الثلج فوق رأس رجل افريقي , لعلها سيارة بيضاء اللون ؟ لم يكن رؤية سيارة غير الطرنزيت المعتادة مشهدا عاديا فمن يا تراه يغتصب عذرية العادة ؟
و أنا غارق في الفرضيات يقترب شيئا فشيئا شخصان في اتجاه مملكتي, انه ..انه ..انه المدير رفقة حارس المؤسسة .. جاء ليزورني.
صار ممكنا سماع دقات قلبي المتسارعة, كأنها تقرع طبول مباغَتة العدو لمملكتي, أ يستقيم اعتبار المدير عدوا للأستاذ ؟؟ طبعا لا ! فلماذا هذا الشعور بعدم الارتياح الذي يراودني ؟ اقترب المدير و هو رجل على أبواب الستين, قصير القامة, قوامه الممشوق و بنيته المستقيمة تتحدى بعنفوان عامل السن، كان يرتدي جلبابا ذات لون أزرق جعلته شبيها بقالب سكر قائم ملفوف بورق بذات لون الجلباب, سواد شعره الخفيف اضمحل حد الانقراض و اشتعل رأسه شيبا, في حين غزاه الصلع من الجانبين الأماميين مكونا قطعة معشوشبة وسطى, تضاريس وجهه المجعد توحي بالصلابة و الاتزان, و نظارتاه الشبيهتان بقعر الكأس تضفي عليه الوقار و تكشف عن تجربة طويلة في الحياة ..
رغم أنه طاعن في السن و البصر فقد كان يقطع الطريق الوعرة في اتجاهي بثبات و اصرار عجيبين, هرولت لأفتح الباب لاستقباله, فتراءى لي مديري , صفعتني جديته قبل أن تصافحني يده, ابتسم تكلفا و سألني تقشفا عن أحوالي, شعرت بالحرج و قد اقتحم مملكتي المتواضعة, و نظره يتجول في أشيائي القليلة, ملابس متناثرة, كتب مشتتة, أواني متفرقة و طاولات تؤثث المكان.. ألقيت بما تبقى من شاي من كأسي الوحيدة ,غسلتها و صببت له الشاي فيها, اعتذرت للحارس, فكأسي وحيدة تعكس حال صاحبها ..
و نحن في القسم-السكن و قبل موعد الدخول توالت طلبات المدير و أشهر في وجهي خاتمه مستعدا :
- أستاذ, أعطني التوازيع السنوية و الشهرية !
- لم أعدها بعد سيدي.
- أعطني المذكرة اليومية !
- " ماكايناش"
- و ملف الغياب !
- "ماكاينش"
- الجذاذت ؟
- لدي دفتر صغير أدون فيه كل هاته الأمور لكن ليس منظما بما يكفي.
ناولته الدفتر, ألقاه غاضبا, جمع أغراضه و كشر عن أنيابه متجهما كدليل على عدم الرضى, غادر القسم السكني و تركني ألملم أشيائي لألحقه للقسم الطيني المجاور, ارتديت وزرتي, و تبعته ..
هناك كان يُحدث بعضا من تلاميذي الذين قدموا قبل موعد الدخول, تمتم معهم بعض الكلمات, أجابوه باحتشام و خجل شديدين, زاد هذا الوضع الطينة بلة و الغضب شعلة, أكرمهم ببضع قطع من الطباشير, كنت قادما لأفتح قسمي و كان مغادرا, تقاطعت خطواتنا, أمطرني بوابل من السخط و التذمر .. غادرني تاركا ندبا عميقة في نفس معلم مبتدئ تائه..
تركني المدير أشلاء متطايرة, لم يدعمني بكلمة, لم يصبرني بعبارة,و لم يواسيني بجملة, جاء ليختم الوثائق, فلم يجدها, جاء أيضا و أراد أن يسمع من تلاميذي بصوت جهوري يسمعه البعيد قبل القريب سمفونية ترحاب جوفاء : الــــــسلااااااااااام عليكوم و راحمتو الله و بركاااااااااااااته, مرحبااان بالزائييييير الكريييييييم " .. لم يسمعها كما اعتاد عند دخول أقسام المعلمين. فقيمني بالتقصير و قابلني بالتحقير, أمام الكبير و الصغير .. ظل الانطباع الأول للسيد المدير يلاحقني طوال السنة, حتى أنه في مجمع لي و زملائي متحلقين حول مائدة الغذاء في بيته, و قد كنت أول الشابعين الحامدين, رماني بسهم قاتل قائلا : "ما تاكل ما تخدم "
و أنا في عمر أصغر أبنائك سيدي المدير, انتظرت منكم دعما غير مشروط, انتظرت دفعة تشجيع أضمد بها جراح الوحدة, انتظرت منكم عبارات ثناء و لو مزيفة أنير بها ليلي القاتم, انتظرت منكم كلمات تقدير و عرفان أستذكرها في لحظات الوحدة الجافة فأبتسم ..
كنت مرابطا في الجبال و اخترت المواظبة و العمل, فقدمتم سيدي المدير و خيبتم آمالي, بل خاب أمل نفسي في نفسي و تركتموها تواجه بالإضافة الى الوحدة و قسوة الظروف, خيبة الأمل.
جئتم سيدي المدير و يا ليتكم ما جئتم ...

يتبع
لقراءة الجزء التاسع اضغط على الرابط : ذكريات معلم -الجزء التاسع-

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-