أخر الاخبار

يوميات معلم مغترب, اليومية الثانية: رحلة الاستكشاف الأولى

يوميات معلم في فرنسا :

اليومية الثانية: رحلة الاستكشاف الأولى


في الصباح امتطيت الحافلة رغبة في الوصول الى المدينة التي ستستقبلني بين أحضانها, أخذت مطوية بها مسار الرحلة و مضيت .. بمجرد الصعود تصدق علي السائق بابتسامة عريضة, رددتها له بالمثل و أرفقتها بتحية " بونجور" الفرنسية, دفعت ثمن التذكرة و ارتميت على مقعد بين المقاعد الفارغة كثيرة العدد, و على غير العادة, كانت المقاعد الأمامية فارغة, كنت قد ألفتها مقاعد VIP  محجوزة قبل حتى أول حجز, و الغريب أن هناك من اختار له الخلف تاركا المقاعد الأولى خاوية على عروشها, هذا غريب !!

صعد الركاب و قد كان الأمر سلسا للغاية حيث ان السائق أدار الأمر وحده دون الحاجة الى "غريسون" يساعده في السيطرة على الوضع, تناسلت أسئلة كثيرة دواخلي عن مهنة مساعد السائق و الأدوار العجيبة الغريبة التي يقوم بها في وطني, فهو الذي يطلق العنان لصوته, و يرمي بسهام وجهته لعله يظفر بصيد ركاب ثمين, يملأ بها مقاعد حافلته و يتعداها للممر الوسطي بينها, هاته المهمة التي تأتي طبعا على رأس مهمات عديدة تبدأ قبل اقلاع الحافلة بوقت غير يسير و تستمر حتى بعد الاقلاع, فترى المسكين واقفا على حافة الباب مرهفا السمع و النظر للظفر بكل مسافر محتمل, انه يعمل  كالردار, لا يفوت اشارة الا التقطها, لكن الدقة قد تخونه في بعض الأحايين فيتوقف مثلا لرجل يحمل حقيبة ظهر, يسأله متدليا من مدخل الحافلة التي تسير الهوينى, "فين غادي أخويا ؟ فيجيبه الرجل " للحمام " يخيب الرجاء و تنسيه الخيبة تمني الصحة للرجل كما جرت اللباقة عندنا, لكنه سرعان  ما يعود لتمشيط الطريق دون كلل أو ملل, قد يخفف تركيزه على المهمة هاته بعد تجاوز حدود المدينة, لكنها تستمر معه طيلة طريق الرحلة, و عدا هذا فهذا الرجل الخارق تجده مراقبا للتذاكر مقعدا مقعدا, قاضيا يحل نزاعات المسافرين حول " البلايص" ,مهندسا يخطط بعبقرية تامة فيُجلس جميع الركاب و لا يترك فراغا في الحافلة الا ملأه, صحيح أن الأمر مربك بحواجز الأمن التي تصطاد هي الأخرى المخالفات, لكن صاحبنا له من الدهاء و ربما المكر ما يكفيه لتجاوز الأمر تارة  بعبارات قليلة و تارة أخرى  بمصافحة غير بريئة للدركي على الطريق !!  هذا الرجل الخارق هو أيضا المفاوض و المراقب و المهندس و المحامي و المحاسب و أنيس السائق .. فكيف يستغنون في هاته البلاد الغربية عن خدماته يا ترى ؟

بيني و بين نفسي صنعت أول اختبار لتقييم فرنسا, حملت المطوية و جعلتها نصب عينيي, أتفحص مواقيت الوصول للبلدات و المدن التي نمر عليها, و أراقب الطريق لأتأكد من مدى احترام التوقيت المسطر على المطوية, كانت النتيجة حقا فوق التوقعات, اندهشت تماما كما يندهش معلم من تلميذ ظنه عديم القدرات, ففاقت قدراته كل زملائه, و تربع على عرش النبوغ .. كان التوقيت دقيقا لدرجة أنه اذ نحن تأخرنا دقيقة أو اثنتين أشك أن ساعتي هي التي تأخرت في الوصول .. حينها أيقنت كم نحن متأخرين في هاته النقطة بالذات, فالتوقيت عندنا على التذكرة شيء و ما يخبرونك به شيء, و توقيت الانطلاق شيء اخر ..

رميت المطوية على جنب, و كففت عن المراقبة فالتقويمات و التقييمات مكانها الأقسام و الفصول, قررت أن أستمتع بالرحلة, جلت بناظري في الأفق فهالني ما رأيت, لون واحد يهيمن على كل المناظر, أخضر في أخضر في أخضر .. المراعي و البساتين أشبه بالصورة التي يضعها المؤلفون أعلى نص يتحدث عن فصل الربيع في مقرراتنا الدراسية, لاشك أن راسم اللوحة استلهم التفاصيل من هنا !!!  روعة المنظر جعلتني أتساءل: اذا كان هذا هو الحال في الدنيا ؟ فكيف ستكون الجنة ؟

طيلة الطريق, ظللت فاغرا فاهي أمام جمال الطبيعة, لم تكن و لو قطعة صغيرة  تتزين بغير اللون الأخضر, وحدها الطريق الاسفلتية تميزت بلون أسود غامق و شرائط من اللون الأبيض الناصع .. كل شيء أراه أربطه لا شعوريا بصورة من وطني, فعلى الطريق أيضا, رأيت قطيعا من الأبقار يرعى في بستان فسيح, ترعى  الأبقار حرة طليقة في قطعة أرض شاسعة و العشب المتوافر سيغني الأبقار على التناطح للظفر بالحصة الأوفر, ذكرني المشهد – ليس بالأبقار في بلدي – بالصورة التي يضعونها على علبة الزبدة, بل انها هي بالتمام و الكمال ..

مرت بنا الحافلة في مسارها بأنفاق كثيرة, و النفق بتفاصيله و أضوائه الصفراء المشعة و مخرج الأمان فيه و منعرجاته المُسطرة باتقان يذكرني بألعاب سباق السيارات التي كنت ألعبها بشغف, و كنت أظن أن هذه الأنفاق لا توجد الا في هاته الألعاب الالكترونية, و ها أنا اليوم شاهد على وجودها في الواقع .. في الحقيقة كل شيء كان جميلا, و كل ثانية من عمر الرحلة كانت فرصة للاكتشاف, و لعل شغفي باللحظة فاق شغف كولومبس لحظة اكتشافه أمريكا, ما يحدث, هو أنك تنسى كل شيء حتى من تكون و الغاية من وجودك هناك, تضع كل شيء خلفك و تنغمس بكل جوارحك في اللحظة, تعيشها بكل حذافيرها و تستمتع بكل التفاصيل, هذا الاحساس المتفرد الذي قلما نعيشه في بلداننا, تمنحه لك الغربة على طبق من ذهب ..

يتبع



صل على الحبيب.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-