ذكريات معلم - الجزء الثاني عشر -
لم يكن في عملي كمعلم في سنته الأولى شغف البدايات, ذلك الشغف الذي يشبه الطفل في عنفوان طفولته, لا يستطيع أن يوقفه عن الحركة شيء إلا المرض, كنت شعلة انطفأ بريقها وسط ظلمة الواقع, كنا نحن المعلمون في سنتنا الأولى كأعواد ثقاب داخل علبة ورقية, لم نستعمل بعد, لكن بللتنا تعيينات في الفيافي, فأبينا الاشتعال في بداية الاشتغال ..
كل يوم عمل, هو يوم نشتغل فيه دون أن نشتعل, نحرق الطاقة و نحترق, علنا ندفئ الأبرياء الجالسين أمامنا, لكن صقيع الواقع أكبر منا و منهم ..
كل شيء كان يحترق بداخلي, رماد أنا من الداخل, أكثر سوادا من رئة مدخن أفنى عمره في مضاجعة السجائر, لازلت أتذكر ليلتي الكئيبة هناك, لا مؤنس إلا شمعتي, أقرأ بعض الروايات على إيقاع ضوئها الخافت, أقترب منها لأجعل الرؤية أفضل و لا أتراجع حتى أشتم شياط أهداب حاجبي أو خصلات من شعري, أرفع ناظري تارة فأسرح في أشكال الظلال التي رسمتها شمعتي على جدران سكني, فتختلط مشاعر الرهبة بكثير من مشاهد الخيال الفسيح ..
في تلك الليلة, غالبني النوم و أنا أحاول فك شفرة صفحات من رواية, غفوت دون أشعر لكن شمعتي ظلت مستيقظة تحرسني من جيوش الظلام التي تطوقني من كل الجهات, في خضم المعركة وجهت ضربة تائهة إلى حارستي فأسقطتها أرضا, كان خطأ أهوجا غير مقصود, ردت شمعتي و أضرمت النار في فراشي, بدأت النار في التهام زربية أمي, تلك الزربية التي أبدعت أمي في صنعها خيطا خيطا و أهدتها لي لتكون الذكرى الجميلة التي أراها فيها كلما اشتدت نار الوحشة لها و البلسم الذي يداوي النفس إذا ضاقت ضنكا من الهموم .. كنت غارقا في النوم عندما التقطت حاسة الشم خاصتي رائحة النيران المحيطة بي, و أحسست بالحرارة تطوقني, لم أكن حينها واعيا بما يحدث, كان الأمر أقرب إلى حلم منه إلى حقيقة, أحسستني ملقى في نار جهنم, يدثرني لهبها و أكتوي بحميمها, عندما زاد الأمر عن نطاق الأحلام, و استشعرت حواسي الخطر, استيقظت كالسكران لا أدري هل أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم من كابوس الحشر في جهنم أو أبادر و أطفئ النيران من حولي .. أمسكت بالشيء الذي وجدته حولي و الذي بالمناسبة لا أدري أ كتاب هو أو دفتر مذكراتي هذه أو أحد أقمشتي الملقاة على الأرض .. عندما وعيت بما يحدث حمدت الله أولا أنني لازلت على كوكب الأرض و لم أحشر في نار جهنم -فأكبر خطيئة ارتكبتها في حياتي أني ولجت التعليم بالباكالوريا- و ثانيا أن سلمت من أن يصبح رأسي مشوطا كرأس خروف عيد الأضحى ..
بعد الحادثة, صرت أكثر حذرا من حارستي, فرضت مسافة أمان بيني وبينها, صحيح أني لا أستغني عن خدماتها, فهي التي تساعدني على النيل من حلكة الليل و تزرع ضوء في حقول كتبي يساعدني على القراءة, و لو أنه خافت الا أنه يفي بالغرض فأحصد محصولا لا يسد جوعي لكنه يسد أوقات فراغي و آخذ منه جرعات ترياقا للسعات الوحدة القاتلةّ.
هل خمنت يوما كيف يقضي معلم وحيد وقت فراغه في الفيافي ؟ سأخبرك ..
لعلك خمنت أني أقضي وقتي في محادثات ثنائية, أحسنت التخمين صديقي, لكنك لم تخمن أن محادثاتي الوهمية قد تكون ثلاثية و رباعية و قد تزيد عن ذلك بكثير فأدير زخما من الأصوات المتداخلة ببراعة كاتب السيناريوهات ثم أؤديها ببراعة الممثل السينمائي , خيالي يعمل أكثر مما قد تتصور, أجعل نفسي أنا, و عندما ينتهي دوري أتقمص دور صديقي, و لكي أضفي شيئا من الاحترافية أغير نبرة صورتي, و قد أضطر إلى تغييرها عدة مرات ليتناسب و الدور .. عندما يتعبني تقمص لعب الأدوار صوتا, تغادرني الشخصيات إلى دواخلي, فيصير عقلي مسرحا للقاءاتنا و أحاديثنا, تدور الأفكار كما يدور قرص مدمج داخل عقلي, أستنزف طاقتي و لكني لا أستطيع التوقف, حتما يقودني الأمر نحو الجنون ..
محاولا الهروب من دوامة التفكير, أفتتح لعبة العلامات مع أحد أصدقائي, أرسم مستطيلا, لون لي و أخر لصديقي, و للأمانة و لأقنع نفسي بجدوى اللعب لا أغش أبدا, فأكون إما رابحا أو خاسرا, فان أنا ربحت أحتفل بجرعة شاي باردة, أجعل لها لحنا مدويا عله يصل صديقي المنهزم حيثما كان .. بعد عدة جولات مع أصدقاء مختلفين, يتسرب الملل فأمسك قلمي محاولا الكتابة باليد اليسرى, أخط جملا و عبارات باللغات التي أعرفها, أتفحص النتيجة و أطلق ضحكة شريرة كالتي تطلقها الساحرات في برامج الرسوم المتحركة مفتخرا بالانجاز ..
قد أحاول أن أكتب شعرا و نثرا و أعصر دماغي كما تعصر الأم " الجفاف" و أكتب أيضا بلغات غير لغتي الأم, و إذا غاب عني ما أكتب و جف مخزون الإلهام, أطلق العنان لقلمي فيكتب ما يشاء و يترجم أحاسيسي عبارات هنا و هناك أتفنن في تنميقها و تزيينها و يعاود قلمي رسم مسارات حروفها .. و أنا على هذا الحال تراودني فكرة أخرى, تستفز ذاكرتي لتخط لائحة طويلة بأسماء كل من درسوا معي في الثانوية و مركز التكوين فردا فردا, من كنت أكلمهم و من لم يجمعني بهم إلا الأقدار و النظرات, الكل كان مطلوبا في الإحصاء, غالبيتهم لا أجد صعوبة في إيجاد أسمائهم و تدوينها, و بعضهم يستعصي على ذاكرتي, لكنها لا تستسلم, قد يأخذ الأمر وقتا لكنني أجده فأقفز من مكاني كلما نجحت في ذلك منتشيا بلذة الاستذكار .. أنهي اللائحة و تفرغ أفكاري, أتصفح دفتري الذي يصلح لكل ما سبق, أتفحصه ورقة ورقة, أختلي بالأخيرة و أدرب نفسي على إجادة توقيع مثالي, أملأ الورقة و لا أترك حيزا فارغا فيها الا ملأته بخربشات غريبة دون أن أستقر على توقيع واحد و دون أن أصل للتوقيع المثالي المنشود ..
اشتريت مذياعا من الطراز القديم من أحد سكان المنطقة فالماركات الجديدة لا تلتقط شيئا إلا "التشتشة" و حتى القديم تختلط "تشتشته" بأصوات المذيعين, و لكن من يأبه بجودة الصوت هنا, المهم هو أن المذياع يملأ فراغ الصمت الرهيب و أراحني و لو قليلا من طواحين الأفكار التي تدور في عقلي, و مع الوقت سطرت لائحة البرامج الإذاعية التي أتابعها و صرت أنتظر أن تحين ساعتها لأظفر ببعض المتعة و أمحو بعضا من الكآبة عن أوقاتي ..
أجرب كل شيء و حين يطفو الملل على كل شيء, أعود للشيء الأهم و الشغل الشاغل, أكتب الشهور و الأيام, أحسب ما بقي منها للعطلة القادمة, أمعن النظر, و أدقق في الأيام و عددها في كل شهر, وجدتني أمقت بعض الشهور فقط لأن بها واحد و ثلاثون يوما, فتمنحني يوما إضافيا و هو ما يعادل ستا و ثمانين ألفا و أربعمائة ثانية ..
أجل يا صديقي, كان للثانية وزن في أوقاتي, أحملها بمشقة, و أحمل أخواتها الأكبر منها بمشقة أكبر فتستنزفني استنزافا ..
يتبع
صل على الحبيب.