مذكرات أستاذ : رحلة لم تنته...(الحلقة الثالثة)
حل الصباح، وعلى غير عادته هادئا، لا منبهات ولا محركات، ولا أصوات تتعالى هنا وهناك، الطبيعة فقط من يصوت في هذا المكان، غردت العصافير أولا معلنة قدوم أنوار الصباح، ثم بعدها دبت حركة الكائنات، ألقت شمس الصباح بظل على المجال بعدما حجب الجبل الشامخ أشعتها، حاضنا المكان كأم تحمي ولدها، وكذلك المكان، يظهر متمسكا بالجبل الأم، كأنه يخشى السقوط في الوادي. فقد اختار الناس هنا مساكنهم في أماكن معلقة صعبة المراس، وهم بذلك يحتمون من الانهيارات و الشعاب المائية التي قد تجرف بناء بأكمله إن وقف في طريقها، أما الأماكن المنبسطة فتخصص للخضروات والزراعات السقوية، وتستغل باقي المناطق للحبوب، الأشجار وعلى رأسها شجرة الزيتون توجد في كل مكان تقريبا، فالناس هنا لا يعتمدون على الأسواق إلا لشراء قنينات الغاز وعلب الشاي والسكر وغيرها مما لا يمكن إنتاجه محليا، لقد عاشت أجيال بعد أجيال في هذا المكان، توارتث أساليبها الخاصة في الإستمرار و الوقوف في وجه القسوة الطبيعية والعزلة، العزلة التي تدوم أسابيع إن لم نقل شهورا خلال فصل الشتاء، الذي وعلى عكس طبيعته، يجود بالثلوج بدل المياه، مساعدا في تخزين الماء للصيف الجاف، رغم قلة الإمكانيات، أحسن الناس هنا استغلال قوة الطبيعة لصالحهم رغما عنها، فالمطحنة التي تقبع في السفح على جانب الوادي، تستغل هي الأخرى قوة انسياب المياه لتدير رحاها.
إن العيش هنا ليس وليد الصدفة واستمراره ليس ضربة حظ، كل شيء بحكمة يسير وبتجربة ضاربة في القدم يحاجج الطبيعة ويحاورها، فحتى الشمس هنا أرغمت على إرسال الظلال أولا متوسلة، طالبة الإذن بالبزوغ.